الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد **
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، قال: جاء أعرابي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال: يا رسول ! نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله. فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: استشفع بالشيء، أي: جعله شافعًا له، والشفاعة في الأصل: جعل الفرد شفعًا، وهي التوسط للغير بجلب منفعة له أو دفع مضرة عنه. * مناسبة الباب لكتاب التوحيد: أن الاستشفاع بالله على خلقه تنقص لله عز وجل، لأنه جعل مرتبة الله أدني من مرتبة المشفوع إليه، إذ لو كان أعلي مرتبة ما احتاج أن يشفع عنده، بل يأمره أمرًا والله عز وجل لا يشفع لأحد من خلقه إلى أحد، لأنه أجل وأعظم من أن يكون شافعًا، ولهذا أنكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك على الأعرابي، وهذا وجه وضع هذا الباب في كتاب التوحيد. قوله: " أعرابي ". واحد الأعراب، وهم سكان البادية، والغالب على الأعراب الجفاء، لأنهم أحري أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله. قوله: " جاع العيال، وهلكت الأموال "، أي: من قلة المطر والخصب، فضعف الأنفس بسبب ضعف القوة النفسية والمعنوية التي تحصل فيما إذا لم يكن هناك خصب، وجاع العيال لقلة العيش، وهلكت الأموال، لأنها لم تجد ما ترعاه. قوله: " فاستسق لنا ربك ". أي: اطلب من الله أن يسقينا، وهذا لا بأس به، لأن طلب الدعاء ممن ترجي إجابته من وسائل إجابة الدعاء. قوله: "نستشفع بالله عليك". أي: نجعله واسطة بيننا وبينك لتدعو الله لنا، وهذا يقتضي أنه جعل مرتبة الله في مرتبة أدني من مرتبة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. قوله: " ونستشفع بك على الله ". أي: نطلب منك أن تكون شافعًا لنا عند الله، فتدعو الله لنا، وهذا صحيح. قوله: " سبحان الله، سبحان الله ". قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ استعظامًا لهذا القول، وإنكارًا له، وتنزيهًا لله عز وجل عما لا يليق به من جعله شافعًا بين الخلق وبين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. و" سبحان ": اسم مصدر منصوب على أنه مفعول مطلق من سبح بسبح تسبيحًا، وإذا جاءت الكلمة بمعني المصدر وليس فيها حروفه، فهي اسم مصدر، مثل: كلام اسم مصدر كلم والمصدر تكليم، ومثل: سلام اسم مصدر سلم والمصدر تسليم. و " سبحان ": مفعول مطلق، وهو لازم النصب وحذف العامل أيضًا، فلا يأتي مع الفعل، فلا تقول: سبحت الله سبحانًا إلا نادرًا في الشعر ونحوه. والتسبيح: تنزيه الله عما لا يليق به من نقص، أو عيب، أو مماثلة للمخلوق، أو ما أشبه ذلك. وإن شئت أدخل مماثلة المخلوق مع النقص والعيب، لأن مماثلة الناقص نقص، بل مقارنة الكامل بالنقص تجعله ناقصًا، كما قال الشاعر: قوله: " فما زال ". إذا دخلت " ما " على زال الذي مضارعها يزال، صار النفي إثباتًا مفيدًا للاستمرار، كقوله تعالى: وجملة " يسبح ": خبر زال. قوله: " حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ". أي: عرف أثره في وجوه أصحابه وأنهم تأثروا بذلك، لأنهم عرفوا أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يسبح في مثل هذا الموضع ولا يكرره إلا لأمر عظيم، ووجه التسبيح هنا أن الرجل ذكر جملة فيها شيء من التنقص لله تعالى، فسبح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربه تنزيهًا له عما توهمه هذه الكلمة، ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه في السفر إذا هبطوا واديًا سبحوا، تنزيهًا لله تعالى عن السفول الذي كان من صفاتهم، وإذا علوا نشزا كبروا، تعظيمًا لله عز وجل، وأن الله تعالى هو الذى له الكبرياء في السماوات والأرض. قوله: " ويحك ". ويح : منصوب بعامل محذوف، تقديره: ألزمك الله ويحك. وتارة تضاف، فيقال: ويحك، وتارة تقطع عن الإضافة، فيقال: ويحًا لك، وتارة ترفع على أنها مبتدأ، فيقال: ويحه أو ويح له. وهي وويل وويس كلها متقاربة فيم المعني. ولكن بعض علماء اللغة قال: إن ويح كلمة ترحم، وويل كلمة وعيد. فمعني ويحك: إني أترحم لك وأحن عليك. ومنهم من قال: كل هذه الكلمات تدل على التحذير. فعلي معني أن ويح بمعني الترحم يكون قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا الرجل ترحمًا لهذا الرجل الذي تكلم بهذا الكلام، كأنه لم يعرف قدر الله. قوله: "أتدري ما الله". المراد بالاستفهام التعظيم، أي: شأن الله العظيم، ويحتمل أن المعني: لا تدري ما الله، بل أنت جاهل به، فيكون المراد بالاستفهام النفي. وقوله: "ما الله". جملة استفهامية معلقة لـ "تدري " عن العمل ، لأن دري تنصب مفعولين، لكنها تعلق بالاستفهام عن العمل وتكون الجملة في محل نصب سدت مسد مفعولي تدري. قوله: " إن شأن الله أعظم من ذلك ". أي إن أمر الله وعظمته أعظم مما تصورت حيث جئت بهذا اللفظ. قوله: "إنه لا يستشفع بالله على أحدًا". أي: لا يطلب منه أن يكون شفيعًا إلى أحد، وذلك لكمال عظمته وكبريائه، وهذا الحديث فيه ضعف، ولكن معناه صحيح، وأنه لا يجوز لأحد أن يقول: نستشفع بالله عليك. فإن قيل: أليس قد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: والجواب أن يقال: إن السؤال بالله لا يقتضي أن تكون مرتبة المسؤول به أدني من مرتبة المسؤول بخلاف الاستشفاع، بل يدل على أن مرتبة المسؤول به عظيمة، بحيث إذا سئل به أعطي. على أن بعض العلماء قال: " من سألكم بالله "، أي: من سألكم سؤالًا بمقتضى شريعة الله فأعطوه، وليس المعني من قال: أسألك بالله. والمعني الأول أصح، وقد ورد مثله في قول الملك: * فيه مسائل: الأولى: إنكاره على من قال: " نستشفع بالله عليك ". الثانية: تغيره تغيرًا عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة. الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله: " نستشفع بك على الله ". الرابعة: التنبيه على تفسير (سبحان الله !). الخامسة: أن المسلين يسألونه ( الاستسقاء. فيه مسائل: * الأولى: إنكاره على من قال: "نستشفع بالله عليك". تؤخذ من قوله " سبحانه الله ! أتدري ما الله "، وقوله: " إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقة ". * الثانية: تغيره عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة. تؤخذ من الله هذا يدل على أنه تغير حتى عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة، وهذا دليل على أن هذه الكلمة عظيمة منكرة. * الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله: "نستشفع بك على الله". لأنه قال: لا يستشفع بالله على أحد، فأنكر عليه ذلك، وسكت عن قوله: " نستشفع بك على الله، وهذا يدل على جواز ذلك، وهنا قاعدة وهي: إذا جاء في النصوص ذكر أشياء، فأنكر بعضها وسكت عن بعض، دل على أن ما لم ينكر فهو حق، مثال ذلك قوله تعالى: * الرابعة: التنبيه على تفسير " سبحان الله ! ". لأن قوله: " إن شأن الله أعظم دليل على أنه منزه عما ينافي تلك العظمة. * الخامسة: أن المسلمين يسألونه الاستسقاء. وهذا في حال حياته، أما بعد وفاته فلم يكونوا يفعلونه، لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ انقطع عمله بنفسه وعبادته، ولهذا لما حصل الجدب في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقي بالعباس، فقال: وبهذا نعرف أن القصة المروية عن الرجل العتبي الذي كان جالسًا عند قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فجاء أعرابي، فقال: السلام عليكم يا رسول الله ! سمعت الله يقول: ثم أنصرف، قال العتبي: فغلبتني عيني، فرأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في النوم، فقال: يا عتبي ! بشر الأعرابي أن الله قد غفر له. فهذه الرواية باطلة لا صحة لها، لأن صاحبها مجهول، وكذلك من رواها عنه مجهولون، ولا يمكن أن تصح، لأن الآية: ومن فوائد الحديث: 1. أنه ينبغي أن يقدم الإنسان عند الطلب الأوصاف التي تستلزم العطف عليه، لقوله: (نهكت الأنفس). 2. الترحم على المذنب إذا قلنا: إن " ويح " للترحم. ***
***
|